حكم القانون ودور المحاكم العرفية في تحقيق الاستقرار بجنوب السودان


English | Français | العربية

محكمة تقليدية في "واراب"، جنوب السودان (تصوير: براين سوكول من يو إن دي بي/جنوب السودان)

محكمة تقليدية في “واراب”، جنوب السودان (تصوير: براين سوكول من يو إن دي بي/جنوب السودان)

حكم القانون في دولة ضعيفة

أدى انزلاق جنوب السودان إلى الحرب الأهلية في عام ٢٠١٣، أي بعد عامين من الاستقلال، إلى تدمير الأسر والمجتمعات والمؤسسات، بما في ذلك المؤسسات القضائية. كانت مؤسسات الدولة هشة بالفعل بعد عقود من الحرب ضد الخرطوم، ولم تكن قد تغلغلت في المنطقة بعد، وكان الكثير منها ما زال في طور التشكيل. المناطق التي تقع خارج نطاق الدولة لم تكن غير خاضعة للحكم. لقد لعب الزعماء التقليديون وتشكيلة كبيرة من المعايير والقواعد القبلية التي تطوعوا بها لحل النزاعات دورًا لا يقدر بثمن في تقريب المجتمعات بعضها من بعض، تمامًا كما فعلوا خلال عقود من القتال بين الشمال والجنوب في الحرب الأهلية السودانية على الرغم من التحديات المتعددة التي واجهوها.

لقد عانت دولة جنوب السودان الجديدة من عسكرة الحياة الخاصة والعامة والإفلات من العقاب والحكم الشخصي. ونتيجة لذلك، عانت الدستورية وسيادة القانون، وهما الركنان الأساسيان لدولة يحكمها القانون. كيف يمكن إذًا أن يساعد حكم القانون على الاستقرار في جنوب السودان؟ وعلى وجه الخصوص، ما هو الدور الذي يسهم به القضاء، بما في ذلك المحاكم العرفية التي تشكل الدرجات الدنيا لنظام العدالة الرسمي، في هذا المشروع؟

ثقافة البندقية وغياب سيادة القانون

أعرب المعلقون عن استيائهم من الدور العسكري الأكثر من الطبيعي في جنوب السودان بديمقراطيته الظاهرية وحكم المدنيين الزائف فيها. تتميز هذه الحالة بالمستوى المتدني لحكم القانون المستمر في جنوب السودان. وتنص سيادة القانون على وجود دولة يخضع فيها الجميع، دون استثناء، للقانون، ويسمح للقانون والمؤسسات الأخرى بالعمل، ويتم التوسط في النزاعات من حيث القواعد والإجراءات المعمول بها. تواجه جنوب السودان مشكلة سيادة القانون منذ ولادتها. وقد تميز هذا بإضفاء الطابع الشخصي على السلطة والمؤسسات الضعيفة بما في ذلك السلطة القضائية التي تخضع للسلطة التنفيذية، وانتشار ثقافة العنف وانعدام الثقة في المؤسسات، والتأثير العسكري السائد في الحياة العامة، بما في ذلك على إدارة العدالة فقط وتسوية المنازعات.

في تقريرها الأساسي لعام ٢٠١٣ عن القضاء في جنوب السودان، شجبت اللجنة الدولية للحقوقيين الضعف الظاهر في حكم القانون في جنوب السودان. وقد أوضحت هذه النتيجة بالإشارة إلى قضية جنرال من الجيش الشعبي لتحرير السودان واجه دعوى قضائية في المحكمة العليا في جوبا، حيث “قام بزيارة للقاضي” بصحبة رجال مسلحين وطالبه بمعرفة الوقت الذي يكون فيه الحكم جاهزًا. وفي حين أن هذه تشكل حالة متطرفة من ترهيب مسؤول في القضاء، إلا أنها واحدة من أعراض الأعمال الأخرى التي تعرض استقلالية القضاء للخطر. وبالمثل، حيث إن القيود المفروضة على قدرة السلطة القضائية الرسمية –عدم كفاية عدد القضاة، وعدد محدود من المحاكم التي تخدم مناطق شاسعة، وسوء ظروف العمل لموظفي القضاء– تحد من وصول المؤسسات القانونية في الدولة الجديدة.

يقتصر اختصاص المحاكم العرفية، التي تشكلت بموجب قانون الحكم المحلي لعام ٢٠٠٩، على قانون “النزاعات العرفية”. ولكن من الناحية العملية، تنظر هذه المحاكم وتبت في مجموعة واسعة من القضايا التي تشمل السرقة والاعتداء والاغتصاب وجرائم القتل والسبب الرئيسي هو أن المحاكم العرفية غالبًا ما تكون “اللعبة الوحيدة في المدينة” أو التي يفضلها المتخاصمون أمام المحاكم النظامية الرسمية. وتشير السجلات إلى أن عددًا هائلاً من القضايا التي تصل إلى المحاكم –ما بين ٥٥ إلى٩٠ بالمئة– يتم البت فيها من قبل المحاكم العرفية المتدنية المستوى ولكنها ضرورية ويعمل بها رؤساء محاكم. وهكذا، فإن هذه المحاكم تملأ فجوة كبيرة في توفير خدمات التحكيم التي تتركها العدالة الرسمية، وهي ضرورية للأمن في البلدات والمناطق الريفية في جنوب السودان.

تحديات ومرونة المحاكم العرفية

على الرغم من الدور الذي تلعبه المحاكم العرفية في تحقيق العدالة وتوفير الأمن للمواطنين، فقد واجهت هذه المؤسسة الحيوية ضغوطات بسبب فترات الحرب المطولة. وقد شمل ذلك الترهيب من قبل الجيش الذي يسيطر على المناطق المحررة بالإضافة إلى إضعاف سلطة قادة المجتمع في أعين المبعدين العائدين الذين تغيرت آراؤهم عن التقاليد عبر تجاربهم الحية.

كما أن المحاكم العرفية في جنوب السودان مقيدة أيضًا بحكم وضعها داخل البيروقراطية الحكومية المحلية، وهو أمر معترف به على نطاق واسع على أنه غير فعال ولا يقدم الكثير من الدعم. ويجد الرؤساء (رؤساء المحاكم) أحيانًا صعوبة في فرض قراراتهم، وقد يخصعون أحيانًا للتهديد بالعنف الجسدي .١ كما أن القادة التقليديين يعانون أيضًا من النزاعات الكبيرة بين المجتمعات التي تتعلق بالوصول إلى المراعي والمياه.

يضيف انتشار الأسلحة مع عموم السكان في جنوب السودان درجة أخرى من الصعوبة .٢ في غياب وجود يمكن الاعتماد عليه للشرطة في المناطق الريفية، يتوجب على رؤساء المحاكم العرفية في بعض الأحيان الاعتماد على الجيش الشعبي لتحرير السودان للقيام بدور القانون والنظام لتوفير الأمن وفرض قرارات المحاكم العرفية. في معظم الأحيان ﻻ يقوم الجيش اﻟشعبي ﻟﺘﺤﺮﻳﺮ اﻟﺴﻮدان بهذا اﻟﺪور وﻟﻜﻨﻪ عوضًا عن ذﻟﻚ يساعد على التهرب ﻣﻦ اﻟﻌﻘﺎب، ﻤﺎ ﻳﺘﺮك اﻟﻤﻮاﻃﻨﻴﻦ دون أي مرجعية يلجأون إليها عندما يتعرضون للانتهاكات. وهذا يقوض احترام القانون، ما يزيد من تعقيد عمل الرؤساء ويزيد من تفاقم حالة انعدام الأمن السائدة في المناطق الريفية.

وفي حين تبقى المحاكم العرفية غير ملائمة من عدة أوجه، فإن غياب القانون سيسود في أجزاء كبيرة من المنطقة. وفي الواقع، فإن الأمم المتحدة، التي أنشأت “لجان حل النزاعات” المنتخبة في مخيمات النازحين داخليًّا، أدركت الدور الحاسم الذي تلعبه المؤسسات التقليدية في تقديم خدمات التحكيم خلال النزاع الحالي.

وبالرغم من هذه التحديات، قدمت المحاكم العرفية مساهمات مهمة للمبادرات التي تعزز الاستقرار في جنوب السودان. على سبيل المثال، خلال السنوات الأخيرة من الحرب الأهلية مع الخرطوم، عمل مؤتمر السلام من قبل قادة المجتمع في “ونلييت” بين مجتمعات الضفة الغربية لنهر النيل ونظرائهم من الضفة الشرقية –بمشاركة الجهات المسلحة الفاعلة وتسهيل مجلس الكنائس– على المساعدة في تهدئة المجتمعات المتناحرة. وفي الوقت نفسه تم توحيد الخصوم الجنوبيين، ما أدى إلى تسريع عملية السلام بين نظام الخرطوم وجنوب السودان. علاوة على ذلك، تم قمع العنف الذي اجتاح ولاية جونغلي في عام ٢٠١٢ من خلال مزيج من الخيارات المشتركة (سياسة “الخيمة الكبيرة”) والقيام بعملية سلام شبيهة بعملية السلام في ولاية ونلييت شملت العديد من المجتمعات. ولما كان تفضيل المنتديات التقليدية من جانب قطاعات كبيرة من السكان يرجع جزئيًا إلى التقدير والهيبة التي لا يزال ينظر بها لكبار السن والعادات، فإن من شأن تمكين هؤلاء أن يؤتي بثمار حكم القانون على المستوى الوطني أيضًا.

بناء الدولة وتدخلات سيادة القانون

عدا عن تدريب عدد قليل من القضاة، وقضاة الصلح، والمدعين العامين الذين كانوا متواجدين خلال فترة ما بعد اتفاقية السلام الشامل، فقد عانى قطاع العدالة من نقص حاد في موظفي القضاء والمدعين العامين. علاوة على ذلك، جاءت أول عملية توظيف كبيرة للقضاة الجدد في عام ٢٠١٣ في تزامن مع بداية هذه الحرب الأهلية إلى حد بعيد ولم تحسن بشكل ملحوظ من تقديم الخدمات. كما يفتقر قطاع العدالة إلى البنية التحتية، حيث هنالك القليل من المرافق في جوبا.

في فترة ما بعد الاستقلال، اتخذ الدعم الموجه إلى المحاكم العرفية شكل التدريب من قبل بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان وشركاء آخرين. وتشير الأدلة القصصية إلى أن هذه التدخلات ربما لم يكن لها تأثير ملموس بسبب وجود العديد من العوامل الهيكلية بما في ذلك انخفاض مستويات معرفة القراءة والكتابة، والممارسات العرفية التي قد تميز ضد النساء والشباب، وعدم التجانس من حيث المعايير العرفية التي تمارسها المجتمعات المختلفة في مختلف أنحاء جنوب السودان، والحالة المزمنة لانعدام الأمن.

إن جهود برنامج الأمم المتحدة التنموي من أجل توثيق القوانين العرفية ومواءمتها تسير بخطى بطيئة، وضيقة النطاق، وتوقفت بسبب اندلاع النزاع في عام ٢٠١٣. ٣ وهنالك إشكالية أيضًا في عملية ربط القضايا وتحويلها بين المحاكم العرفية والعدد المحدود من محاكم الصلح (في كل مقاطعة) التي ينبغي أن تمارس دورًا إشرافيًّا على سابقاتها. وقد حسنت المحاكم الدورية (المحكمة العليا) التي أُدخلت على أساس تجريبي من قبل رئيس القضاة في منطقتين من تقديم الخدمات القضائية ولكن لم يتم تمويلها بشكل كافٍ.

يعكس الدعم غير الكافي للمحاكم العرفية إهمال الحكومات المحلية وحكومات الولايات فيما يتعلق بمؤسسات الحكومة الوطنية. وقد كان لذلك آثار متعددة، بما في ذلك زيادة فاعلية الصراعات المحلية وضياع فرص بناء ثقافة حكم القانون من القاعدة الشعبية، وترك أغلبية المحيط الخارجي غير خاضع للقانون. وقد أدى هذا إلى ترسيخ استخدام القوة وانعدام الأمن حيث يلجأ المواطنون إلى العنف من أجل “حل” نزاعاتهم.

توصيات

سيادة القانون جزء لا يتجزأ من الاستقرار المستقبلي لجنوب السودان. وفي حين سيتم تشكيل سيادة القانون من خلال السياق السياسي الأوسع في جنوب السودان، فإن توسيع نطاق المحاكم غير الرسمية في المناطق غير المحكومة في البلاد سيكون أحد المكونات الحيوية في أي سيناريو لتحقيق الاستقرار. وتشمل الأولويات في هذا الصدد ما يلي:

زيادة إمكانيات الوصول إلى تدريب قانوني أساسي لمدة شهر لـ ١٬٥٠٠ مساعد قانوني لتقديم المشورة وتوجيه رؤساء المحاكم العرفية في المسائل القانونية. وبالإضافة إلى تعزيز الأسس القانونية لهذه المحاكم، فإن توسيع نطاق استخدام المساعدين القانونيين سيوفر المزيد من الفرص لمشاركة النساء والشباب، ما يجعلهم أفضل تمثيلاً للمجتمعات التي يخدمونها.

وضع إطار وطني (قانون التنسيق) على أساس الدستور وحقوق الإنسان والقوانين الجنائية. وهذا من شأنه أن يخلق التجانس فيما يتعلق بكيفية عمل المحاكم العرفية وإتاحة الفرص لتقاسم الخبرات بين هيئات القانون العرفي من مختلف أنحاء البلاد.

يجب أن يعمل الإطار الوطني على فصل المحاكم العرفية عن الطبقة الثالثة من الحكومة غير الممولة بما يكفي –الحكومة المحلية– ووضعها ضمن نطاق القضاء الوطني. وهذا من شأنه أن يعالج مشكلة تهميش المحاكم العرفية، ويؤكد دورها الحاسم في تحقيق العدالة والأمن للمواطنين، وتعزيز الرقابة عليها من قبل القضاة وقضاة الصلح وبناء قدراتهم من خلال توفير الموارد، بما في ذلك المكافآت الرمزية للمحكَمين.

وكجزء من الجهد الأوسع للإصلاح القضائي، يجب تعزيز المحاكم العرفية بدعم أكبر من الشرطة المحلية التي يمكنها فرض الامتثال للقرارات. وسيتطلب ذلك تجنيد المزيد من أفراد الشرطة وتدريبهم ونشرهم لتوفير الأمن لهيئات القانون العرفي ولتيسير تنفيذ قراراتهم.

تحسين التنسيق وإجراءات الإحالة بين المحاكم الرسمية والمحاكم العرفية. ويدعو ذلك إلى توسيع نطاق السجلات في المحاكم الرسمية لإتاحة المجال لرفع الملفات والتوثيق وتحويل القضايا بين المحاكم عند مراجعة الوقائع من قبل قاضي الصلح أو القاضي أو أمين السجل. ومن شأن تسجيل قادة المجتمعات المحلية المشاركين في المحاكم العرفية أن يسهل التنظيم والتدريب والمكافآت وحفظ السجلات والعقوبات حسب ما تقتضيه الحالة.

د. غودفري موسيلا هو خبير في القانون والعدالة الدولية. وخدم كزميل باحث في مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية كما عمل مفوضًا في لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنوب السودان.

ملاحظات

  1. David K. Deng, “Challenge of Accountability: An Assessment of Dispute Resolution Processes in Rural South Sudan” (Juba: South Sudan Law Society, 2012), 32-33
  2. Ibid
  3. Tiernan Mennen, “Study on the Harmonization of Customary Laws and the National Legal System in South Sudan” (Juba: United Nations Development Programme, 2016)