لا يزال الوعد بالديمقراطية قائمًا في تونس، فالانتخابات الرئاسية التي أجرِيت في ١٥ سبتمبر/أيلول والتي دفعت بالمرشح قيس سعيد، أستاذ القانون غير المعروف نسبيًّا، ونبيل قروي، وهو قطب إعلامي معروف، إلى الجولة الثانية تعزّز مكانة البلاد كمكان مشرق في مشهد إقليمي تشوبه الدكتاتورية والعنف السياسي والحرب. في الواقع، أحد الدروس الرئيسية في التصويت هو مقدار تطبيع السياسة الانتخابية. هذه هي الانتخابات الوطنية الخامسة والانتخابات الرئاسية الثانية التي تجريها تونس منذ الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي في يناير/كانون الثاني ٢٠١١. بشكل عام، كانت الانتخابات الحرة والنزيهة هي السمات المميزة. وهو مهم بشكل خاص هذا العام حيث كان هناك العديد من المرشحين البارزين في المؤسسات، بمن فيهم رئيس الوزراء يوسف الشاهد والرئيس المؤقت السابق المنصف المرزوقي.
مغزىً حقيقيًا آخر برز من نتائج الانتخابات الرئاسية وهو أن روح الربيع العربي التونسي ٢٠١١ لا تزال حيّة وتقاوم. التيارات التي أوجدت الثورة التونسية – الاحباط المستمر منذ وقت طويل للجميع بشأن عدم المساواة في الثروة والركود الاقتصادي والفساد – لم تتلاشى أبدًا ووصلت إلى درجة الغليان بفعل اثنين من المبتدئين السياسيين بمفاهيم متباينة على نطاق واسع حول كيفية جعل الديمقراطية التونسية أكثر استجابة.
“روح الربيع العربي التونسي ٢٠١١ لا تزال حيّة وتقاوم”
في الوقت الذي يستعد فيه التونسيون للمواجهة القادمة لانتخاب سعيد – قروي في ١٣ أكتوبر/تشرين الأول والتصويت التشريعي الحاسم في ٦ أكتوبر/تشرين الأول، تدخل البلاد مرحلة حرجة في نضالها للتغلب على التفاوتات الاقتصادية المنهكة التي أدّت إلى قيام جزء لا يستهان به من الناخبين التونسيين بالتصويت لصالح خروج كبير عن الوضع الراهن.
يمكن لهذه اللحظة السياسية أن توفر وسيلة لتونس للتحرّك في اتجاه أكثر شمولاً وفعالية يوفر إدارة اقتصاديًة أفضل ويثبت أن الديمقراطية هي الخيار الأفضل للقيام بذلك، أو يمكن أن يؤدي إلى الركود وخيبة الأمل والغربة بين المواطنين والسياسة. هذا، بدوره، يمكن أن يفتح الباب أمام المتسلطين الانتهازيين الذين يعدون بنتائج حاسمة.
موجة انتخابية من السخط
جاءت الموجة المعادية التي الطبقة السياسية التونسية في ١٥ سبتمبر/أيلول بعد ٤ أيام من وفاة الرئيس المستبد السابق بن علي، الذي ألهمت الإطاحة به في يناير/كانون الثاني ٢٠١١ ما أصبح يُعرَف بالربيع العربي. تحوَّل الناخبون المحبطون إلى خارجين عن المؤسسة لأن الأحزاب الرئيسية لم تتخذ سوى خطوات قليلة لمواجهة الغضب العام من ارتفاع معدّلات البطالة، خاصة بين الشباب (٣٦ بالمئة)، والتفاوتات الإقليمية المستمرة في التعليم والصحة والدخل والتضخم المتسارع (٧ بالمئة) الذي بلغ أعلى مستوى له منذ عام ١٩٩٠.
ربما نجح الائتلاف الإسلامي العلماني الكبير الذي حكم تونس على مدى السنوات الثماني الماضية في تهدئة المصادمات الأيديولوجية التي عكَّرت السياسة وهدّدت استقرار البلاد، لكن مع إطالة هذه التجربة في سياسات التوافق، بدا أنصارها الرئيسيين أكثر أحقية وتحصّنًا، ويصمون آذانهم بشكل متزايد عن احتياجات ومخاوف وقلق العديد من التونسيين. وحتى حزب النهضة الإسلامي، الذي تحول منذ إضفاء الشرعية عليه في عام ٢٠١١ إلى منظمة سياسية قوية وفعالة ، كان يخسر الدعم تدريجيًا في الانتخابات الإقليمية والاستطلاعات الوطنية. من خلال العمل كشريك صغير في الائتلاف في الحكومات العامرة بأعضاء النظام القديم، لم يستطع الحزب أن يشرّع أي من وعوده للتصدّي للفساد وتقليل الفوارق الاقتصادية والإقليمية. وكان عليه أن يؤيد السياسات الاقتصادية التقليدية التي يلقي عدد كبير من التونسيين باللوم عليها على إدامة عدم المساواة. وقد قبِلَت بقانون العفو عن الجرائم الاقتصادية المثير للجدل، فضلاً عن إعاقة عملية العدالة الانتقالية، وكل ذلك باسم الحفاظ على تحالفها التكتيكي مع الحزب الحاكم، نداء تونس. أضعف كل هذا السُلطة الثورية للحزب وشرعيته.
في النهاية، فإن عدم القدرة على توفير أفاق اقتصادية واجتماعية مُحسَّنة لغالبية التونسيين قد حلّ بكامل المؤسسة السياسية. فقد فشل رئيس البرلمان المؤقت، عبد اللطيف مورو (١٢.٩ بالمئة)، ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي (١٠.٧ بالمئة)، ورئيس الوزراء يوسف الشاهد (٧.٤ بالمئة) في التأهل للدور الثاني. (هذه النتائج تسلِّط الضوء على انقسام الناخبين التونسيين.)
حتى قبل العرض الضعيف لمرشحي المؤسسة، كانت هناك علامات تحذيرية على أن السياسة التونسية ستواجه تصفية حساب ثانية منذ ثورة ٢٠١١، فمنذ عدة سنوات حتى الآن، أظهرت استطلاعات الرأي العام انخفاضًا مثيرًا للقلق في ثقة الجمهور في الأحزاب السياسية والبرلمان. كما أصبحت الاحتجاجات ضد التهميش وتدهور الأوضاع الاقتصادية أمرًا اعتياديًا. وقد استفاد من هذا الاستياء كل من قيس سعيد الذي حصل على أعلى نسبة من الأصوات، ١٨.٤ بالمئة، ونبيل قروي الذي حصل على ١٥.٦ بالمئة وحدَّدوا وضعهم بنجاح كغرباء راديكاليين سيعطلون النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
مواجهة غير مألوفة
لقد أنهكت ظاهرة قروي على وجه الخصوص المؤسسة السياسية لعدة أشهر قبل الانتخابات. على الرغم من التواصل المباشر مع السياسيين المتداولين والأثرياء المتنفذين الذين يهاجمهم الآن بانتظام، فقد تمكن من وضع نفسه كمتمرد سيهز السياسة. ترتكز زيادة شعبية قطب الإعلام البالغ من العمر ٥٥ عامًا بقوة على استخدامه الاستراتيجي لشبكته التلفزيونية نسمة لتعزيز صورته كرجل أعمال ولمساعيه الخيرية. إن مؤهلات قروي الثورية ضئيلة بشكل واضح، لكن خطابه السياسي الذي يركّز على المظالم الاقتصادية للناخبين، إلى جانب أنشطته الخيرية التي يتباهى بها، عزَّزا مكانته باعتباره المنقذ المعلن للفقراء وقد تعزَّزت مكانة المليونير عندما ألقي القبض عليه بتهمة غسل الأموال والتهرّب الضريبي قبل أسابيع قليلة فقط من انتخابات ١٥ سبتمبر/أيلول. تم توجيه الاتهامات لأول مرة في عام ٢٠١٦ من قبل آي ووتش، الفرع التونسي لمنظمة الشفافية الدولية. مع ذلك، أثار توقيت الاعتقال مخاوف جدية بشأن دوافعه السياسية. يلقي سجنه المستمر بظلال من الشك على مصداقية العملية الانتخابية. بغض النظر عما إذا كان قروي سيفوز بالرئاسة أم لا، فإن صعوده إلى الصدارة السياسية يظهر كيف أن الناخبين التونسيين الذين شعروا بأنهم ليسوا في وضع جيد اقتصاديًا مستعدّون لتعليق آمالهم على أي زعيم يأملون أن يحقِّق لهم الإغاثة الاقتصادية.
يكشف الصعود المفاجئ لقيس سعيد، ٦١ عامًا، أنه لا يوجد تعريف مشترك في رد الفعل العنيف ضد المؤسسة في تونس. سعيد هو نقيض قروي اللامع. إنه مرشح غير مألوف ، دون بريق أو حزب سياسي، أو مال. لقد خاض سباقًا سياسيًا متواضعًا مع القليل من النشاطات المرئية في الحملة الانتخابية، واعتَقَد عدد قليل من الناس أنه مرشح جاد. تجاهلت وسائل الإعلام حملته حتى عندما أظهرت أرقام استطلاع الرأي لما قبل الانتخابات أنه مرشح من الدرجة الأولى. الآن وقد سلَّط فوزه الأضواء عليه، بدأت الدراسة النقدية لسعيد ورئاسته المحتملة. هناك علامات تم طرحها بالفعل لمحاولة الإيقاع به سياسيًا وأيدولوجيًا، ويشتبه البعض في أنه ذئب إسلامي يتخفى في ثياب حمل، بينما يصوره آخرون بأنه قومي عربي راديكالي، ماركسي، أو فوضوي. الواقع أكثر تعقيدًا ودقة. سياسة سعيد وأيديولوجيته تتحديان التصنيف السهل. يكمن نجاحه في قدرته على بناء ائتلاف من الشباب المتعلم من خلفيات الطبقة العاملة الذين شعروا بالخيانة لتطلعاتهم بأن تحقّق ثورة ٢٠١١ الكرامة والوظائف والعدالة الاجتماعية.
صنع سعيد اسمًا لنفسه للمرة الأولى بين عامي ٢٠١٢ و ٢٠١٣ عندما ظهر على شاشة التلفزيون الوطني كخبير يقدم ملاجظات وانتقادات حول المجلس الوطني التأسيسي التونسي. بعد انتخابات ٢٠١٤، اختفى عن الرادار الإعلامي. منذ ذلك الحين، شن حملة محلية في جميع أنحاء البلاد لتفكيك النموذج التونسي المركزي للدولة واستبدالها بمبادئ وممارسات الديمقراطية المباشرة. إن مقترحاته بنقل السلطة للمجالس المحلية المنتخبة ومحاسبة المسؤولين المنتخبين من خلال إمكانية إعادة الانتخابات قد استهوت الإسلاميين المحبطين والطلاب اليساريين والناشطين الاجتماعيين. إن التحدي الذي يواجه سعيد إذا تم انتخابه هو كيفية مواصلة تشريع مقترحاته، خاصة تلك التي تدعو إلى إصلاحات سياسية أساسية. حقيقة كونه لا ينتمي إلى أي حزب سياسي سيجعل من الصعب عليه تشكيل كتلة سياسية جديدة ضد المصالح التي سيتم تمثيلها في البرلمان المقبل الذي سينتخبه التونسيون.
التكيف مع واقع ما بعد ٢٠١٩
كان رد الفعل المناهض الطبقة السياسية قادمًا من فترة طويلة. الآن وقد وصل، يأمل الكثير من التونسيين في أن تؤدي المواجهة الرئاسية الحاسمة والانتخابات البرلمانية التي ستجري في 6 أكتوبر/تشرين الأول إلى إعادة تمهيد للديمقراطية التونسية. مع ذلك، يعتمد مستقبل الاستقرار الديمقراطي في تونس على قدرة القيادة المُنتخبَة الجديدة على تحسين جوهري على سجل تقديم الخدمات للحكومات السابقة. إن الدرس الذي يجب استخلاصه من ظاهرة قروي، الوعد باستعادة رئاسة أكثر قوة وفاعلية، ورؤية قيس سعيد حول تداول السُلطة كوسيلة لجعل المؤسسات السياسية أكثر ديمقراطية واستجابة هي أن التونسيين يصرخون مطالبين بالتغيير. يبدو أن التغيير قد بدأ الآن، على الرغم من أن النماذج التي على التونسيين الاختيار بينها مختلفة بشكل صارخ.
“يأمل الكثير من التونسيين في أن تؤدي المواجهة الرئاسية الحاسمة والانتخابات البرلمانية اللاحقة التي ستجري في ٦ أكتوبر/تشرين الأول إلى إعادة تمهيد للديمقراطية التونسية.”
وفّر الهياج الثوري لعام ٢٠١١ الفرصة الأولى لتونس لجعل السياسة أكثر انسجامًا مع رغبة التونسيين في التمثيل الشعبي. بدت الأهداف واضحة في البداية (وضع دستور وإنشاء المؤسسات اللازمة لبناء الديمقراطية) وبدت آفاق الإصلاح واعدة، لكن سرعان ما تعثرت المرحلة الانتقالية في النقاشات بين أولئك الذين أرادوا الانفصال التام عن النظام القديم وأولئك الذين رأوا الثورة على أنها استمرارية أكثر من كونها انفصال. فقدَ أنصار الانفصال الزخم حيث أوقفت معارك الأيديولوجية التحول الديمقراطي وعجّلت بعودة بعض النخب من النظام القديم. ساعد التقرّب بين الإسلاميين والعلمانيين في تهدئة الضغوط الأيديولوجية والتوترات المجتمعية، لكن ذلك لم يفعل الكثير لتعزيز قضية العدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية.
تجد تونس نفسها اليوم في مرحلة حرجة أخرى من تحوّلها، فهناك فرص وعثرات على طول الطريق. إذا أسفرت الانتخابات البرلمانية التي ستُجرى في ٦ أكتوبر/تشرين الأول عن هيئة تشريعية مجزأة، فقد تجعل تونس أكثر صعوبة للحكم وغير قادرة على تقديم العلاجات الاجتماعية -الاقتصادية لعدم المساواة التي يطالب بها التونسيون. مثل هذا السيناريو لا يخاطر فقط بتفاقم سخط المواطنين وغضبهم لكن أيضًا يوحّد قضية هؤلاء الذين يتملكهم الحنين للعودة إلى حكم دكتاتوري “أكثر كفاءة”، تهيمن عليه رئاسة قوية. مع اقتراب الانتخابات، تكثفت لعبة التحالفات التي تسبق الانتخابات. هناك جهود لإصلاح الائتلاف المتوتّر الذي كان يلتئم حول (حزب) نداء تونس. يبدو هذا التحالف السياسي كشراكة طبيعية للسيد قروي ذو الاتصالات الواسعة وحزبه السياسي قلب تونس. إذا فاز قيس سعيد بالرئاسة، فسيتعيّن عليه التغلُّب على العقبة الكبيرة المتمثلة في بناء تحالفات جديدة تعيد رسم الخارطة السياسية التونسية. حزب النهضة، وهو أكبر الأحزاب في تونس وأكثرها تنظيمًا، قد أيَّد سعيد بالفعل، ومع ذلك، سيظل بحاجة إلى تحالف أوسع بكثير يدعمه في البرلمان لتحقيق التغييرات الأساسية التي دعا إليها.
مصادر أضافية
- فريدِريك بوبان، "عودة المقموعين للثورة"، لوموند، ١٨ سبتمبر/أيلول ٢٠١٩.
- حمزه مِؤدِّب، "الخروج المرتبك للنهضة من الإسلام السياسي"، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، ٥ سبتمبر/أيلول ٢٠١٩.
- جوزيف سيغل، "اتجاه الدمقرطة في أفريقيا: الاحتجاجات، القمع، والاختراقات"عرْض فيديو في برنامج قادة القطاع الأمني الناشئ في مركز إفريقيا للدراسات الإستراتيجية، ١٤ يونيو/حزيران ٢٠١٩.
- ساره ييركس ومروان المعشِّر، "اللامركزية في تونس: تمكين المدن وإشراك الناس"، ورقة مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، مايو/أيار ٢٠١٨.
- أنور بوخرص، "حواف المغرب العربي الهشة،" موجز الأمن في أفريقيا، رقم ٣٤، مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية، مارس/آذار ٢٠١٨.
- مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية، "أفريقيا والربيع العربي: عصر جديد من التوقعات الديمقراطية،" تقرير خاص لمركز أفريقيا، رقم ١، نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١١.
More on: Democratization Tunisia